هل يمكن اعتبار علم الرياضيات مثالا للدقة و الوضوح و البداهة ؟
الطريقة : جدلية :
مقدمة: ( طرح المشكلة )
الرياضيات هي علم المفاهيم العقلية
المجردة القابلة للقياس ، وهي نتيجة من نتائج
مجهود الإنسان الفكري و سعيه نحو
المعرفة ، وبهذا المعنى يكون علم الرياضيات علما
دقيقا وواضحا كما أن قضاياه تكون
بديهية تستبعد عنها كل شك .
و الإشكال المطروح
هنا هو : على أي أساس تكون الرياضيات علما
دقيقا و يقينيا ؟
و إلى أي مدى تبقى كذلك في زمن المجموعات اللا متناهية و المسلمات
اللااقليدية والأنساق
المعاصرة ؟
العرض : ( محاولة حل المشكلة )
يرى الفيلسوف و عالم الرياضيات الفرنسي * رينيه ديكارت * 1596 / 1650 بان
الرياضيات علم
دقيق وواضح بذاته كما أن قضاياها بديهية تستبعد
كل شك فيها ، ولعل موقفه هذا مستمد
من نزعته العقلية و منهجه في البحث الذي
يقوم على قاعدة أساسية هي أننا لا نقبل أي
شيء أو قضية أو معتقد الا إذا كان صادقا و معيار
الصدق عنده هو الوضوح و البداهة ،
إن الرياضيات عنده تقوم على
أفكار فطرية قبلية لذلك فهي صادقة بذاتها و لا يمكن الشك
فيها كما أن الرياضيات
عنده بنوعيها ، الكم المنفصل و الكم المتصل * الجبر و الهندسة *
أكثر العلوم دقة لأنها استنتاجيه عقلية ،
ونجد كذلك من يؤيد * ديكارت * في هذا مثل عالم الرياضيات الفرنسي * باسكال * الذي
يرى أن طريقة البرهنة في الهندسة منهجية وكاملة ، وكذلك الفيلسوف الألماني * ليبنتز
* الذي يرى أن الرياضيات ليست سوى امتداد وتطور للمنطق العام ن وان البديهيات في
الرياضيات ترد إلى مبادئ العقل ، كذلك رأى الفيلسوف الألماني * ايمانويل كانط * إن أساس الرياضيات قضايا
حقيقية قبلية تفرض نفسها على العقل فرضا ، فمن الضروري عنده أن نقول انه من نقطة خارج مستقيم لا يمر سوى مواز واحد لهذا المستقيم وان السطح المستوي له بعدان
، إن المسلمات الاقليدية عنده أساسها العقل الخالص ،لذلك لا يمكن لأحد أن يشك في
مصداقيتها و يقينها .
هكذا كانت نظرة العلماء و
الفلاسفة إلى الرياضيات على أنها علم دقيق
ويقيني ،كما احتلت مكانة الصدارة بين العلوم ، إلى أن بدا الشك والنقد يصل إليها
بعد محاولة بعض علماء الرياضيات بناء هندسات جديدة ، و بعد انهيار فكرة المطلقية
التامة للعلوم
في الفرن التاسع عشر وضع عالم الرياضيات
الروسي * لوباتشيفسكي * مسلمات جديدة في الهندسة تقول انه من نقطة خارج مستقيم
يمكن أن تمر عدة مستقيمات موازية لهذا المستقيم ، وان مجموع زوايا المثلث اقل من
180° وفي سنة 1854 افترض عالم الرياضيات الألماني * ريمان * أن من نقطة خارج
مستقيم لا يمر أي مواز لهذا المستقيم و ان مجموع زوايا المثلث اكبر من 180° ، وكل
هذا ينطلق من هندسات فضائية جديدة قائمة على تصورات مختلفة للمكان ، وأصبح بهذا ما
يراه الأولون حقائق ثابتة أصبحت متغيرة ، حتى البديهية التي تقول إن الكل اكبر من
الجزء أصبحت لا تنطبق على المجموعات اللامتناهية ، وكانت هذه اكبر أزمة تعرضت لها الرياضيات في
تاريخها وقد عبر الفيلسوف الانجليزي *
برتراند راسل * عن هذه الأزمة بمقولته الشهيرة *الرياضيات هي العلم الذي لا نعرف
هل ما يقال فيه صحيح أم لا * فإذا كان
معيار الصدق في الرياضيات هو عدم تناقض الفكر مع
نفسه على أساس أن لا احد يشك في الفكر و مبادئه فان تزعزع بديهية الكل اكبر
من الجزء جعل
الإنسان يشك في العقل و
مبادئه ، وفقدت الرياضيات بذلك معيار صدقها ويقينها التام و
المطلق .
غير أن هذه الأنساق الرياضية الجديدة لم تفقد الرياضيات مكانتها الكبيرة بين العلوم
فهي لا تزال بالرغم من كل ما سبق أدق العلوم
على الإطلاق ، فبالرغم من التحول الكبير
الذي عرفته الرياضيات المعاصرة الا أنها لم تفقد معيار
صدقها و الآراء التي ظهرت أو
الأنساق المعاصرة * النسق الاكسيومي * لا تتناقض مع النسق الاقليدي لان لكل نسق أسسه
الخاصة التي ينطلق منها .
إن الدرجة العالية التي وصل إليها علم الرياضيات
في وقتنا الحاضر تؤكد بان هذا العلم
علم متطور ومتجدد يستفيد من النظريات الكلاسيكية
* التقليدية * لبناء انساق جديدة ، مع
التأكيد على عدم وجود تناقض أو تعارض بين جميع الأنساق الرياضية وكل نسق جديد أو
تجديد في الرياضيات إنما يخدم
الرياضيات بالدرجة الأولى ، وبهذا أصبح
اليقين في
الرياضيات مرتبطا بالنسق الذي
يتبناه فقط ، وليس يقينا مطلقا .
الخاتمة : ( حل
المشكلة )
وهكذا نستنتج في الأخير
من طرحنا لإشكالية اليقين في الرياضيات ، بان الرياضيات ليست
يقينية يقينا مطلقا كما كان يعتقد العلماء في
الماضي ، وإنما أصبح يقينها مرتبطا بسلامة
النسق وعدم تناقضه مع نفسه ، فتطور الرياضيات إذن لم يغير
في طبيعتها من شيء ولكن
صحح
من نظرة الإنسان إليها .

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق